لا يرحم التاريخ أحدًا؛ فهو يوثق كل شيء. وإذا لم تستطع غزة أن تكسر أوهامنا، فلن يفعل شيء آخر، حتى ينعكس المنطق الذي صغناه في الخارج علينا نحن في الداخل. هذا ما يؤكده الكاتب محمد شكري يامان في مقاله التحليلي.

يتكرر في كثير من التحليلات الغربية ردٌّ جاهز على أزمات الشرق الأوسط: يُعزى كل شيء إلى "الدين"، أو "الأحقاد القديمة"، أو إلى مزاعم "رفض المنطقة للتقدّم". وكما يوضح تقرير وكالة الأناضول، فإن هذه الحكاية تريح الجمهور الغربي لأنها تُرضي غروره؛ فإذا كان الحريق سببه الخرافة والطائفية، تبقى الحداثة الغربية بريئة.

غزة تكشف الحقيقة بأوضح صورة. كارثتها ليست انفجارًا لاهوتيًا، بل نتيجة سياسات صيغت في غرف مكيفة، بعيدة عن المساجد ومخيمات اللاجئين، ورُصدت لها ميزانيات وطنية، ودُفعت عنها الحجج في المنابر وغرف الأخبار. احتلال وحصار واغتيالات وتشريد جماعي وخنق للطعام والماء والكهرباء والدواء؛ كل ذلك ليس نتاج "عصبية قبلية"، بل فعل دول.

داخل الغرب نفسه برزت أصوات ترفض مسكن البعد الزائف. الاقتصادي جيفري ساكس وصف دمار غزة بأنه مُصنَّع، أي أنه ليس انفجارًا ثقافيًا متخلفًا بل نتيجة متوقعة لاستراتيجيات عسكرية ودبلوماسية واقتصادية طويلة الأمد، مدعومة بالقوة الغربية. وعندما يُنتَج هذا الخراب عمدًا، يصبح وصفه بـ"التخلف" مجرد أداة لإنتاج رضا زائف.

من زاوية أخرى، يرى الطبيب والكاتب جابور ماتيه أن كلمة السر ليست "الطائفة" بل "الصدمة". وهو ناجٍ من الاضطهاد الأوروبي ضد اليهود، يصف غزة بأنها مكان عوقب فيه شعب بأكمله حتى أصبح في حالة طوارئ دائمة. لا يساوي بين جراح الطرفين، لكنه يسأل: ماذا يعني أن يتعلم من تعرّض للتجريد من الإنسانية أن يبقى على قيد الحياة عبر تجريد آخرين منها، بينما يصفق الغرب لذلك باعتباره "دفاعًا عن النفس"؟ القضية ليست في الموازنة الأخلاقية، بل في كسر سحر التجريد من الجسد، إذ تذوب شعارات "التحضر" عندما نحدّق في الركام والأجساد.

 

مختبر للسيطرة

السياسي الأمريكي نورمان فينكلستين، ابن الناجين من المحرقة، قضى عقودًا يوثق البنية القانونية التي حوّلت غزة إلى نموذج للعقاب الجماعي. يقول بوضوح: غزة استُخدمت كمختبر لأساليب السيطرة – مراقبة، حصار، اجتياحات دورية – بينما وفّرت العواصم الغربية العتاد والمظلة الدبلوماسية. وبعد كل عدوان يتكرر الطقس المعتاد: تحقيقات مؤجلة، قرارات مخففة، عناوين تُفرغ من الفاعل. لغة "الأمن" لا تشرح، بل تمحو.

حتى داخل مؤسسات أوروبا ظهر التصدع. في ستراسبورج وصفت النائبة الأيرلندية كلير دالي زملاءها بأنهم مفلسون أخلاقيًا لأنهم يحتفلون بحقوق الإنسان بيد ويمنحون تراخيص السلاح باليد الأخرى. بعض النواب من أيرلندا وإسبانيا والدول الإسكندنافية طالبوا بفرض عقوبات ووقف التعاون العسكري. أصواتهم أقلية، لكنها تكشف نفاقًا أكبر: الغرب لا يكتفي بمشاهدة غزة، بل يشارك في غزة.

وهنا نعود إلى الكلمة التي تظلّل المنطقة كحكم: "التخلّف". ما الذي يقصده الغرب بها؟ إذا كانت الحداثة تعني البحث العقلاني، وسيادة القانون، والحقوق الكونية، ورفض عبادة القوة، فإن غزة ليست اختبارًا فشلت فيه المنطقة، بل اختبارًا فشل فيه الغرب أمام أعين العالم.

العقلانية تقتضي أن نتبع الأدلة لا الأساطير عن "الحضارات". والأدلة تظهر سياسات حصار واستيطان وقصف يتكرر عبر حكومات متعاقبة، وتُبرر بالحجج نفسها، وتنتج النتائج نفسها. سيادة القانون تعني تطبيقه على الجميع بلا استثناء، لكن في غزة يتحول القانون إلى مسرحية: نصوص إنسانية، ديكور من لجان تحقيق، ثم يسدل الستار على النسيان. الحقوق الكونية تعني أن حياة طفل في خان يونس تساوي حياة طفل في كراكوف أو كانساس. لكن "الكونية" تتحول إلى جواز سفر مراقب على الحدود. أما رفض عبادة القوة؟ فالغرب ينشد سريعًا أناشيد الدقة التكنولوجية لصواريخه باسم الديمقراطية.

 

القوة والنسيان المصنوع

صحيح أن للدين مكانًا في قصة غزة، كما له مكان في قصة أوروبا وأمريكا. لكن تفسير غزة بالدين يشبه تفسير المجاعة بالقشة الهشة. إنه إغفال متعمد للقوة التي تقرر من يأكل ومن يُجوّع.

الحقيقة الأصدق أبسط وأقسى: غزة تجسد ما يحدث عندما يلتقي النفوذ مع الإفلات من العقاب ويكتشف أن العالم سيتسامح مع كليهما. يحدث ذلك حين تحوّل مجالس التحرير المدنيين إلى "أضرار جانبية"، وحين تقيس البرلمانات غضبها بميزان التحالفات، وحين تكافئ الجامعات إدارة الجدل لا البحث عن الحقيقة. يحدث ذلك حين تُستخدم مفردات "الحداثة" لتخدير الضمير لا لإيقاظه.

ومع ذلك، تظل هناك خيوط ضوء: مسرّبون، وعمال إغاثة، ومحامون يوثقون الأدلة سطرًا بسطر، وصحفيون يرفضون المبني للمجهول، ونواب يرفضون مقايضة ضمائرهم ببطاقة دعوة لاجتماع أمني، ومواطنون ينظمون احتجاجًا لا لأنه موضة بل لأنه حق. وجودهم يطرح السؤال الحقيقي: ليس "لماذا الشرق الأوسط متخلف؟" بل "لماذا تتصالح المجتمعات الحديثة مع القسوة حين يرتكبها حلفاؤها؟"

 

من المتخلف حقًا؟

إذن من المتخلف؟ الفلاح الذي سُوّي بيته بالأرض ثم يبحث في غباره عن صورة ليدفنها؟ أم الحكومة التي أمرت بالقصف، والحكومة التي زودت بالقنبلة، وغرفة الأخبار التي صاغت العنوان حتى اختفى الفاعل؟ التخلف ليس جغرافيا ولا عقيدة، بل القبول بمعاناة الآخرين كضريبة لراحتنا، وتسميته "عقلانية".

إذا كان للحداثة معنى يستحق التمسك به، فهو الشجاعة في كسر وهم الأكاذيب المريحة، ورفض التواطؤ لا فقط مع ما نموله ونسلّحه، بل مع ما نبرره ونسكت عنه. إنه الإصرار على أن القانون ليس قناعًا، وأن الحقوق ليست عملة، وأن حياة الطفل ليست متغيرًا جيوسياسيًا.

التاريخ لا يرحم؛ يحتفظ بالإيصالات. وإذا لم تكسر غزة أوهامنا، فلن يفعل شيء آخر، حتى نكتشف أن السؤال لم يعد: هل يصلح الشرق الأوسط للحداثة؟ بل: هل نحن أصلًا صالحون لها؟
https://www.aa.com.tr/en/opinion/opinion-who-is-truly-backward-gaza-and-the-mirror-of-western-modernity/3670599